<P id=text2 align=center>ثمة عبارة متداولة في الكتابات الليبية منسوبة للرحالة والمؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت، يقول فيها: "من ليبيا يأتي الجديد". وهي مقولة جرى ترويجها بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الملازم معمر القذافي في عام 1969 ضد الملك إدريس السنوسي، حيث كان بعض الليبيين المتذمرين يرددون حينذاك: "إبليس ولا إدريس". وقد استجيب لدعائهم سريعاً، فجاء لحكمهم ضابط شاب مغرور، أعلن ولائه المطلق لعبدالناصر، واعتبر نفسه تلميذه ووريثه الشرعي في تبني مشروع الوحدة والقومية العربية!
<P id=text2 align=center>يتهم الكثير من الناس القذافي بالجنون، لكن سلوكه السياسي، طوال أكثر من أربعة عقود في حكم ليبيا يكشف عن شخصية مركبة، من الصعب القول أنها تفتقد الوعي والإدراك السليم، فقد صمد الرجل أمام تحديات عديدة، واستطاع أن يسجل رقماً عربياً وعالمياً قياسياً في البقاء في سدة الحكم، رغم أن الشعب الليبي، مثل الشعب العراقي، يتميز بالشجاعة ورفض الظلم والطغيان!
<P id=text2 align=center>
رسول أم ساحر؟! <P id=text2 align=center>أقرب وصف للقذافي ليس الجنون، بل السحر، فهو ساحر متمرس في عالم السياسة، في مظهره ومنطقه وخطاباته وأساليبه غير المتوقعة وتصرفاته الغريبة، وقد عايشت، خلال إقامتي للتدريس في جامعة المختار في ليبيا، منذ عام 1999 ومشاركتي في بعض جوانب المشهد الإعلامي الليبي، تلك الحالة السحرية غير المسبوقة التي كان يعيشها المجتمع الليبي في ظل حكم القذافي، فقد اُختصرت مقولات القذافي الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في كتيب صغير سُمّي بالكتاب الأخضر، واُعتبرت تلك المقولات نظرية عالمية ثالثة، بديلة للنظريتين الرأسمالية والاشتراكية، ومن ثم أصبح ذلك الكتاب هو الدستور والمرجعية الوحيدة في تطبيق تلك النظرية، وتم طبع الكتاب وتوزيعه بأكثر من خمسين لغة عالمية، مثل الكتب السماوية المقدسة، رغم أن هناك شكوكا حول المؤلف الحقيقي للكتاب الأخضر، فقد نسبه بعض الباحثين للكاتب والمفكر الليبي المرحوم الصادق النيهوم أو غيره من الكتّاب العرب الذين اشتراهم القذافي بثمن بخس!
<P id=text2 align=center>لم يتورع القذافي عن إضفاء صفات الأنبياء على نفسه، فقد صدر كتاب "القذافي رسول الصحراء" للكاتبة الايطالية ميريلا بيانكو عام 1973، وهو يتحدث في حوار مطول مع المؤلفة المزعومة، عن رحلة أربعة آلاف يوم أمضاها في التخطيط والعمل من أجل الثورة، منذ كان طالباً في المدرسة الثانوية في صحراء سبها، ثم شواطئ سرت المتوسطية، وكان يرعى قطيع أغنامه ويفكر ويتأمل، وكان ذلك الشاب الصغير "يتنبأ" بمستقبل مشرق لوطنه وأمته على يديه بوصفه المنقذ المنتظر، وبعد أن تم قبوله في الكلية العسكرية، بات الحلم أقرب إلى الحقيقة.
<P id=text2 align=center>
رحلات غامضة! <P id=text2 align=center>هناك ثلاث رحلات مهمة في حياة القذافي، ترسم خط مسيرته نحو "المجد"، يحيطها الغموض والكتمان، فرحلته الأولى كانت من واحة سبها الصحراوية إلى قرية سرت، بعد طرده من المدرسة الثانوية لمشاركته في تظاهرة ضد "الاستعمار" بسبب فشل الوحدة بين مصر وسوريا، والرحلة الثانية كانت إلى لندن في دورة عسكرية قصيرة، بعد تخرجه من الكلية العسكرية، حيث يتهمه بعض معارضيه بالانضمام للمخابرات البريطانية والأميركية والإسرائيلية، تمهيداً لتسهيل وصوله إلى الحكم، دون صعوبات، أما الرحلة الثالثة، الأكثر غموضاً وسرية فهي وصوله إلى بغداد في عهد الرئيس الراحل عبدالسلام عارف، للمشاركة في دورة تدريبية عسكرية، وهو برتبة ملازم ثان، وكان يقيم لعدة أسابيع في منطقة الكاظمية، وهو بناءً على ذلك يزعم الانتماء إلى أحفاد الرسول الأطهار عبر سلالة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام). ويبدو أن تلك الزيارة حفرت في ذاكرة القذافي صورة مشرقة عن صفات الشعب العراقي، وجعلته يوصي شعبه بحسن التعامل مع العراقيين الذين أجبرتهم ظروف الحصار والظلم، في بداية التسعينيات من القرن الماضي على الهجرة إلى شتى بقاع الأرض، ومن بينها ليبيا، ولم يكن الليبيون بحاجة لمثل هذه التوصية، فهم يتحلون بطبيعتهم بالأخلاق العربية الأصيلة، ومنها تكريم الضيف، والترحيب بالغريب، ونصرة الشقيق.
<P id=text2 align=center>نص الكتاب الأخضر يمكن اعتباره "متن" النظرية العالمية الثالثة أما "الهوامش" والشروحات والتفسيرات فهي كثيرة ومملة أحياناً، وبخاصة خطابات القذافي، التي كان الليبيون يتندرون منها أو يتجاهلونها، ولا يصغون إليها أو يقرأونها بجدية، وذلك لأنها تعبّر عن حجم الهوة الفاصلة بين النص المكتوب والواقع المكشوف على الأرض!
<P id=text2 align=center>يزعم القذافي أن السلطة والثروة والسلاح أصبحت بيد الشعب الليبي منذ إعلان قيام الجماهيرية وسلطة الشعب، في عام1977، حيث المؤتمرات الشعبية تقرر واللجان الشعبية تنفذ، ويؤكد القذافي أنه منذ ذلك التاريخ لم يعد يمتلك أي منصب حكومي، سوى كونه قائداً لثورة الفاتح من سبتمبر، ووفقاً لطروحات الكتاب الأخضر لا يوجد في ليبيا دستور ولا رئيس ولا ملك ولا مجلس وزراء ولا برلمان ولا صحافة مستقلة، ولا منظمات مجتمع مدني، لأن هذه السلطات أصبحت بيد الشعب، ولكن الواقع أن هذه المناصب والمواقع ظلت محتكرة بيد القذافي وأولاده فقط، وهو تناقض صارخ بين النظرية الشعبية والممارسة الدكتاتورية، فجميع الليبيين يعرفون أن لا أحد منهم يحصل على وظيفة رسمية مهمة إلا بتوقيع القذافي، ولا تصرف رواتبهم إلا بمصادقة القذافي، ولا يعدم أو يسجن أو يعفى أحدهم إلا بموافقة القذافي، ولا أحد يتجرأ على الحديث والنقد في وسائل الإعلام الرسمية سوى القذافي.. فأين الشعب الذي يقرر وينفذ؟!
<P id=text2 align=center>الساحر لم يغفل عن هذه الإشكالية، فهو يتباهى بعبقرية نظريته العالمية دائماً، ويتهم الشعب بالتقصير وعدم الفهم والكسل، ومن ثم أصبحت الطريق مفتوحة أمام الانتهازيين والفاسدين للاستحواذ على مكاسب الشعب الجاهل الغافل الذي لا يعرف كيفية تطبيق النظرية الثالثة.
<P id=text2 align=center>ولكي تستمر الوصفة السحرية، ابتكر الساحر طريقة الزحف الأخضر، فعندما تشتد الأزمة ويتزايد التذمر من ظاهرة معينة، يقوم القذافي نفسه بمهاجمة الفاسدين، ويطلب من الجماهير الزحف لتطهير تلك المواقع التي أصبحت بؤراً للفساد، مثل الوزارات والسفارات والجامعات، وغالباً ما يهتف الشباب المتحمسون باسم القائد الحكيم، وهم يشنقون الأساتذة وسط الجامعات، أو يحرقون الكتب والمكتبات أو يحطمون أبواب المؤسسات الرسمية، وينصّبون من بينهم لجاناً ثورية لقيادة مؤسسات الشعب من أجل الشعب، ثم يظهر الزعيم على شاشة التلفزيون في خطاب حماسي لتحية الزاحفين إلى المجد، ويختم خطابه دائماً: "إلى الأمام، إلى الأمام، والكفاح الثوري مستمر"!
<P id=text2 align=center>وخلال أربعة عقود من الحكم المطلق استطاع القذافي، باعتباره كبير السحرة، تكوين طبقة من الشعراء والمشعوذين والمصفقين والراقصين على أبواب السلطان، الذين ينظمون المهرجانات والمؤتمرات والندوات، لمناقشة الكتاب الأخضر أو تحليل القصص التي تعبّر عن شخصية الزعيم، رغم أن المشاركين في تلك الفعاليات المفتعلة والمفبركة يعرفون صفة البخل والتقتير التي تلازم الزعيم، حيث يكدس المليارات من دولارات النفط وأطنان الذهب في أقبية تحت الأرض، وسط الصحراء الليبية، في حين يعاني الكثير من الليبيين من الفقر، وينتشر الشحاذون في كل مكان.
<P id=text2 align=center>
أسرار الزعيم الساحر! <P id=text2 align=center>هناك الكثير من المواقف الغريبة والمظاهر والألغاز التي تميز سلوك القذافي، قد لا يفهمها الكثير من الناس، وقد حاولت البحث عن حلّها وتفسيرها، خلال إقامتي الطويلة في مدينة البيضاء الليبية، ومن خلال معرفتي ببعض أقارب الزعيم المخلوع، وبخاصة من قبيلة البراعصة، التي تنتمي إليها السيدة صفية الزوجة الثانية للقذافي وأم أولاده الستة، ومن تلك الألغاز المستعصية:
<P id=text2 align=center>1- قام الملازم الأول معمر محمد بومنيار القذافي بترقية نفسه إلى رتبة عقيد، بعد نجاح الانقلاب العسكري، وظل يحتفظ بهذه الرتبة العسكرية المتوسطة، حتى نهاية نظامه، قبل أسابيع قليلة، في حين كان بعض ما تبقى من زملائه المشاركين في الانقلاب مستمرين في الترقية العسكرية حتى رتبة لواء أو فريق، فما سر تمسك القذافي برتبة العقيد؟! يقول أحد المقربين منه أن الزعيم التقى في بداية شبابه امرأة عجوز بدوية أخبرته بأنه سوف يصبح ضابطاً، وسوف يحصل على أعلى المناصب في بلاده، ولكنه إذا تجاوز رتبة عقيد سوف يقتل من قبل أعدائه! لذلك صدّق القذافي نبؤة العرّافة، وتوقف عند رتبة العقيد، واستعاض عن الرتب العسكرية بألقاب ومناصب مدنية مثل القائد والزعيم وعميد الحكام العرب وملك ملوك أفريقيا وغيرها.
<P id=text2 align=center>2- يحافظ القذافي على حياته من خلال حراسات مشددة وفرق عسكرية مدربة، وقد أضاف إلى حرسه الخاص كوكبة من الضابطات الليبيات الجميلات، يحطن به ويرافقنه في حلّه وترحاله وسفراته الكثيرة، وقد حاول الكثيرون تفسير الأمر، ويبدو أن هذه الظاهرة القذافية، لا ترتبط بشجاعة الحارسات اللواتي يظهرن أكثر قوة من الرجال، أو أكثر إخلاصاً للزعيم، ولكن الحقيقة التي لم يعرفها سوى المقربين هي أن القذافي يعتقد أن وجود نساء بين حراسه الشخصيين سوف يجعل احتمالات التآمر عليه قليلة، وذلك أن الأجواء المختلطة وتداخل العلاقات سوف تكشف الأسرار المخفية، وأن من الشائع أن الكثير من الرجال يضعفون أمام الإغراء الإنثوي، فيتحدثون عن كل شيء، ومن جانب آخر فإن الثرثرة والوشاية عادة نسائية مفيدة أحيانا، وكانت العرافة العجوز قد أخبرت القذافي بأنه سوف ينجو من الموت مرات عديدة، على يد اقرب النساء إليه، وكانت الممرضة صفية قد أنقذته بأعجوبة، عندما حقنت نفسها بالإبرة قبل أن تعالجه في مستشفى درنه، فكانت أفضل مكافأة لها أن أصبحت زوجته المفضلة!
3- يسمّي القذافي نفسه رجل الخيمة والصحراء، ويستقبل زواره الرسميين ويسكن في خيمة متنقلة، لكنها خيمة تكنولوجية عصرية مجهزة بأحدث الأجهزة، مثل الإنارة والتدفئة والتبريد وكاميرات التصوير والمراقبة ومقاومة الرصاص والحريق، ومعروف أن لدى القذافي العديد من المخابئ المحصنة تحت الأرض، فلماذا يظهر وسط الخيمة دائما، وهو يرتدي زيه البدوي المعروف؟ يقول أحد أقربائه المقربين أن القذافي يعاني من شعور بالخوف من الأماكن المغلقة والبنايات العالية، ويرتعب من السفر بالطائرة، وبسبب نشأته البدوية فإنه يشعر بالحنين للخيمة والناقة والصحراء، ويريد من خلال خيمته التمظهر بالتواضع والتعفف والبساطة، وهي عادات حسنة لدى المؤمنين الزاهدين، لكن الواقع يؤكد أن القذافي وأسرته يعيشون حياة سرية باذخة، لا تتناغم مع الخيمة التي أصبحت رمزاً للتناقض بين القول والعمل، وبين الظاهر والباطن، في حياة الزعيم المخلوع!
د. محمد فلحي