من أحكام دعاء المظلوم
- المظلوم وإن كان فاجراً :
عبد الله : إياك والظلم ، فإن الظلم ظلمات ، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ r بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)([1])
( حجاب ) حاجز يحول دون وصولها واستجابتها.
فعلى هذا فدعاء المظلوم لا حاجز ولا مانع بينها وبين الله ، ولا شك في إجابة الله عز وجل لها .
قال ابن الملقن رحمه الله([2]) : (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) هذا تنبيه على الامتناعمن جميع أنواع الظلم .
ثم قال : وعلل إنفاذ دعوة المظلوم بعدم الحجاب بينها وبين الله تأكيدًا لتحريم الظلم وتنبيهًا على سرعة عقوبة فاعله ، ودعوة المظلوم مسموعة لا ترد ، وهو معنى عدم الحجاب بينها وبين الله تعالى.
ثم قال : والمعنى : ان المظلوم دعوته مقبولة وإن كان عاصيا مخلطا ، ولا يكون عصيانه وتخليطه حاجبا لدعائه.انتهى.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r(ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لا شَكَّ فِيهِنَّ : دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ)([3])
فأبشر أيها المظلوم فإن أُغلقت في وجهك الأبواب ، فاقرع أبواب السماء ، وبُثَّ إلى الجبار شكواك ، فهو ناصر المظلومين ، وملجأ المستضعفين ، وَعَدَ بنُصْرة الملهوف ، وإجابةِ المظلوم .
فدعاء المظلوم مستجاب على كل حال ؛ لأن المظلوم إنما يطلب من الله حقه ، والله سبحانه لا يمنع ذا حق حقه.
ومن قصص إجابة دعاء المظلوم :
ما حدث لسعد بن أبي وقاص وقد اشتكاه رجلٌ ظلما ، فدعا عليه سعد قائلا : (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَطِلْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَن)
فقال عبد الملك بن عمير أحد رواة الحديث :فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن ، وكان هذا الرجل يقول : (إِذَا سُئِلَ يَقُولُ : شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ)([4])
(للجواري) جمع جارية وهي الأنثى الصغيرة (يغمزهن) يعصر أعضاءهن بأصابعه.
وكذلك سعيد بن عمرو بن نفيل اشتكته امرأة تُسمى أروى ظلما ، فدعا عليها قائلا : (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا) فقال أحد رواة الحديث : َرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ ،تَقُولُ : أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي الدَّارِ ، مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ ، فَوَقَعَتْ فِيهَا فَكَانَتْ قَبْرَهَا([5]).
فليحذر الظالم المعتدي أن تصيبه دعوة مظلوم خرجت من قلب مكلوم ، ليس بينها وبين الله حجاب ، فما أسرع ما تجاب دعوته .
عن حميد بن هلال قال([6]): كان بين مطرف وبين رجل من قومه شيء .
فقال له مطرف : إن كنت كاذبا فأماتك الله أو تعجل الله بك . قال : فخر ميتا مكانه.قال : فاستعدى أهله زيادا وهو على البصرة .
فقال لهم زياد : هل ضربه ؟ هل مسه ؟
فقالوا : لا . فقال زياد : هي دعوة رجل صالح وافقت قدر الله.
وعن سليمان بن حرب قال([7]): كان مطرف مجاب الدعوة أرسله رجل يخطب له فذكره للقوم فأبوه ، فذكر نفسه فزوجوه .
فقال له الرجل في ذلك : بعثتك تخطب لي خطبت لنفسك .
قال قد بدأتُ بك ، قال : كذبت .
قال اللهم إن كان كذب علي فأرني به ، قال : فمات مكانه فاستعدوا عليه ، فقال لهم الأمير : ادعوا أنتم أيضا عليه كما كان دعا عليكم.
توضيح([8]) :
قال ابن العربي إلا أنه (دعاء المظلوم) وإن كان مطلقاً (بأن الله سيجيبه لا محالة) فهو مقيد بالحديث الآخر (وهو) أن الداعي على ثلاث مراتب : إما أن يعجل له ما طلب ، وإما أن يدخر له أفضل منه ، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله.
- وهذا كما قُيدَ مطلق قوله تعالى (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ) بقوله تعالى (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء)(الأنعام :41)
قلتُ: يعنى هذا : أن الله وإن تكفل بإجابة دعوة المظلوم والمضطر وأن لا يردهما ، إلا أن هذا متعلقا بمشيئته سبحانه ، كأن توافق دعوتهما ما قدره الله مسبقا ، فإن جاءت على خلاف ما قدره الله ، أثابهما الله على الدعاء ، أو يدفع عنهما من الشر ، أو يدخر هذا لهما في يوم القيامة .
قال أبو بكر الطرطوشي رحمه الله([9]) :
فإن قال قائل : قال الله (اجيبُ دعوةَ الداعِ) [البقرة :186] فقد يدعو الداعي فلا يُجاب دعاؤه.
والجواب عن ذلك فيما يُقال في الآية : أنها مطلقة ، ثم قيدت بالمشيئة ، قال تعالى(فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء)(الأنعام :41)
فتقدير الكلام : أجيبُ دعوة الداعي إن شئتُ .
ونظيره قوله سبحانه (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى: 20]
وكثير ممن يريد حرث الدنيا ولا يؤتاه فهذا خطاب مطلق ، ثم قُيد بالمشيئة فقال في موضع آخر (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [الإسراء: 18]
فهذا هو الجواب الأصولي المعول عليه.
ثم قال : وقد يجيب السيد عبده ، والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله ، لأن في ذلك هلاكه ، فعند ذلك يكون المنع عطاء ، بل هو أشرف نت العطاء ، وإذا منع المسؤول وهو لا يضره العطاء ، ولا ينفعه المنع ، فليس ذلك إلا حسن النظر إليه.
ثم ذكر رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري أن النبي r (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ ، لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ ، إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ :
إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا) قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ ، قَالَ : (اللَّهُ أَكْثَرُ)([10])
فيكون تقدير الآية : أجيب دعوة الداعي بالذي هو أفضل وأصلح ، ألا ترى قوله تعالى (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) [يونس: 11]
وذكر رحمه الله أجوبة أخرى غير ما ذكرناها عنه .
* * * * *
- المظلوم الفاجر أو الكافر :
واعلم أن المظلوم وإن كان فاجراً وعاصياً فإن دعاءه مستجاب كذلك .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r (دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ)([11])
ومما يؤكد إجابة دعوة المظلوم وإن كان كافرا حديث عائشة (أن وليدة سوداء لحي من العرب أعتقوها ، .. ثم حدث من أمرهم أنهم اتهموها بسرقة وشاح أحمر لابنتهم ، وكانت حدأة قد رأته فحسبته لحما فأخذته ، ففتشوها فلم يجدوا معها شيئا ، ثم جاءت الحدأة فألقته عليهم ، فعلموا براءتها ، ثم جاءت إلى رسول الله r فأسلمت ، قالت عائشة :فكان لها خباء في المسجد)([12])
وفي رواية عند البيهقي في الشعب أن تلك الوليدة السوداء قالت :
(فَدَعوتُ اللهَ أَنْ يُبَرئني ، قالتْ : فَجَاءتْ الْحِدَأةُ بالوشاح حتى طرحته وسطهم وهم ينظرون)([13])
فكان هذا الدعاء منها قبل أن تسلم وتذهب إلى المدينة ، وقد أجابه الله لها ، وهي على كفرها ، وما هذا إلا لأنها كانت مظلومة.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله :
وربَّ ظلومٍ قد كفـــيت بحربـــه... فأوقعه المقـدور أيَّ وقـوعِ
فما كان لي الإســلامُ إلا تعبــدًا ...وأدعيــةً لا تُتَّقــى بـدروع
وحسبك أن ينجو الظلومُ وخلفـه... سهامُ دعاءٍ من قِسيِّ ركوع
مُرَيَّشة بالهدب مـــن كل ساهـــرٍ... منهلة أطرافـــها بدمـــوع
وقال :
أتهزأ بالـــــدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن ... له أمــدٌ وللأمـد انقضـاءُ
دعاء الظالم لا يستجاب.
قال تعالى : ( وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلاَلٍ ) [الرعد : 14]
قال ابن بطال معلقا على الآية([14]) : وهذا أصل فى دعاء الظالم أنه لا يُستجاب فيمن دعا عليه ، وإنما يرتفع إلى الله تعالى من الدعاء ما وافق الحق وسبيل الصدّق .