كيف ننتفع بالقرآن الكريم؟
لقد أثنى الله -عز وجل- على كتابه العزيز وبين حسنه الذاتي في أكثر من آية؛ قال -تعالى-: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92]، وقال: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1]، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]، وقال: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} [الجاثية: 20]، وأقر وصف مؤمني الجن له بقولهم: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30].
كما بين -عز وجل- في العديد من الآيات ما في القرآن الكريم من النفع والخير العميم الذي لا يناله إلا من أقبل على هذا الكتاب مؤمنًا مصدقًا، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
أما من أعرض عنه ولم يرد الانتفاع به فقد بين حاله بقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]، وبقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
وانظر إلى قوله -تعالى-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 26، 27]، وكيف تواصى هؤلاء فيما بينهم بعدم الاستماع له والتشويش عليه وعدم تأمل ما فيه فاستحقوا العذاب الشديد، وانظر إلى قوله -تعالى-: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 203، 204]، وكيف جعل الرحمة بالقرآن للمؤمنين خاصة، ثم انظر كيف علق تحقق الرحمة بنقيض فعل الأولين أي بالاستماع والإنصات، ثم تأمل كيف فرق بين الاستماع والإنصات، فالاستماع هو عدم الانشغال عنه بغيره أثناء القراءة، والإنصات هو التفكر والتدبر فيما يُقرأ، فإن حقق المؤمن ذلك تحققت الرحمة.
وشبيه بهذا وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» [1].
فإذا كان الإيمان شرطًا للانتفاع بالقرآن فإنه شرط غير كاف، فلا بد أن يضم المؤمن إلى جانب إيمانه به إقبالًا عليه بالتلاوة والاستماع والتدبر والتفكر والعمل والتحكيم، أما أن يكتفي بأصل الإيمان به ثم يهجره كما هجر أهل الكتاب كتبهم، فأي خير يرجوه العبد من وراء ذلك؟
قال ابن القيم -رحمه الله-: "هجر القرآن أنواع؛ أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به، والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم، والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه، والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به. وكل هذا داخل في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض" [2]، وهذا الفهم منه -رحمه الله- دليل تفكر وتدبر، وإلا فإن كثيرًا من الناس لا يفهم من الهجر إلا هجر القراءة وحده، وقصر الهجر عليه خطأ.
إن عدم العمل بما في القرآن بتحليل حلاله وتحريم حرامه من الهجر، فهل نحن نعمل بالقرآن في بيوتنا ومدارسنا وتعاملاتنا كلها؟
وإن عدم التحاكم إليه من الهجر، وهناك دول فيها إذاعات للقرآن الكريم تتلوه آناء الليل وأطراف النهار لكنها تُحَكِّم غير القرآن، فهذا من أعظم الهجر، وهو غير هجر العمل وغير القراءة.
وإن من الهجر هجر تدبره، وقد نعى الله على من يقع في ذلك فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، ومنه ترك الاستشفاء به، فالذي لا يستشفي بالقرآن يهجره، وليس المقصود الاستشفاء بآيات الرقية فحسب، قال -تعالى-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، و{مِنَ} هنا بيانية أي كل آية فيها شفاء ورحمة.
إن من أتاه خطاب من معظَّم عنده عظَّم خطابه لأن فيه كلامه، فلا بد من تعظيم كتاب ربنا الذي فيه كلامه الذي لا يدانيه كلام، وهذا من تعظيم الله -عز وجل- وتوقيره الذي أُمِرنا به، كما قال نوح -عليه السلام- لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، وكما قال -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
وهذا التعظيم مادي ومعنوي، فالمادي بأن يجعل المرء المصحف دومًا في مكان نظيف ولا يضع فوقه شيئاً من غير جنسه، وبألا يكبه على وجهه أو يضعه خلف ظهره لسجود تلاوة أو سلام وما أشبه، وألا يدخل به إلى الخلاء ولا يجعل آية منه كنغمة جوال، إلى غير ذلك؛ وأما التعظيم المعنوي فبترك الهجر بأنواعه والإقبال على القرآن الكريم قراءة وتدبرًا وفهمًا وعملًا كما كان من سلفنا الصالح -رضي الله عنهم-.
وإذا كان الأمر على ما سبق فإن للانتفاع بالقرآن الكريم علامة لا تتخلف، قال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، فمن وجد من نفسه تأثرًا، ومن قلبه وجلًا، ووجد زيادة في الإيمان إذا تليت عليه آيات الرحمن فليبشر وليؤمل خيرًا، وإن وجد غير ذلك، فليراجع نفسه كي لا يكون القرآن حجة عليه.
وما أجمل كلام الإمام البخاري -رحمه الله- في قوله -تعالى-: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، حيث قال: أي لا يذوق نفعه ولا يتأثر به إلا المطهرون من الأرجاس، والمقصود هنا: طهارة القلب، وشرحه ابن حجر بقوله: بمقدار طهارة قلب المؤمن يكون أثر القرآن عليه.
وهذا معنى تدبري بديع وجميل، وهو يعطي تفسيرًا لما نراه من عدم انتفاع كثير من الناس بالقرآن رغم قراءته، فالإناء -وهو القلب- ليس خالصًا ولا مطهرًا ولا مهيأ لقراءة القرآن، فاستحضر هذا المعنى وانظر إذا شئت إلى حال المصلين خلف الإمام؛ فمنهم من يتفكر ويتدبر، ومنهم من يخضع ويخشع، ومنهم من يبكي، ومنهم من لا يدري ماذا يسمع، ومنهم والعياذ بالله من يضيق صدره بما يسمع.
نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.