.
الوجه الثاني : إثبات معنى لم يدل عليه ظاهر اللفظ ، فهل عنده علم أن الله تعالى أراد المعنى الذي صرف ظاهر اللفظ إليه ؟! هل عنده علم أن الله أراد مجيء أمره ؟! قد يكون المراد جاء شيء آخر ينسب إلى الله غير الأمر . فإذاً كل محرف أي كل من صرف الكلام عن ظاهره بدون دليل من الشرع فإنه قائل على الله بغير علم من وجهين :
الأول : نفيه ظاهر الكلام .
الثاني : إثباته خلاف ذلك الظاهر .
لهذا كان أهل السنة والجماعة يتبرأون من التحريف ، ويرون أنه جناية على النصوص ، وأنه لايمكن أن يخاطبنا الله تعالى بشيء ويريد خلاف ظاهره بدون أن يبين لنا ، وقد أنزل الله الكتاب تبياناً لكل شيء والنبي ، صلى الله عليه و سلم ، بيّن للناس ما أنزل إليهم من ربهم بإذن ربهم . أما التمثيل فمن الواضح أن القول به تكذيب للقرآن ، لأن الله تعالى يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية11) . ولهذا كان عقيدة أهل السنة والجماعة ، بل طريقة أهل السنة والجماعة في نصوص الصفات من الآيات ، والأحاديث ، هو إثباتها على حقيقتها وظاهرها اللائق بالله ، بدون تحريف وبدون تعطيل ، وقد حكى إجماع أهل السنة على ذلك ابن عبد البر في كتابه ( التمهيد ) و نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – و كذلك نقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال : ( أجمع أهل السنة على تحريم التشاغل بتأويل آيات النصوص و أحاديثها ، و أن الواجب إبقاؤها على ظاهرها ) .
العنصر الثالث : "العدول عن هذا الموقف تطرف دائر بين الإفراط والتفريط" :( العدول عن هذا الموقف – أعني موقف أهل السنة و الجماعة – تطرف إما إفراط ، و إما تفريط ، لأن الناس انقسموا في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام : طرفان ، ووسط طرف غلا في التنزيه حتى نفى ما أثبته الله لنفسه ، و طرف آخر غلا في الإثبات حتى أثبت ما نفاه الله عن نفسه .فإن من أهل البدع من أثبت النصوص على ظاهرها ، و لكنه جعل هذا الظاهر من جنس صفات المخلوقين و العياذ بالله . فأثبت النقص لربه بإلحاقه بالمخلوق الناقص ، و أخطأ في ظنه أن ظاهرها التمثيل . أثبت أن لله – تعالى – سمعاً ، و أن لله تعالى وجهاً ، و أن لله تعالى عيناً ، وأن له يداً لكنه جعل ذلك كله من جنس صفات المخلوقين ، غلا في الإثبات حتى بلغ به إلى التمثيل . و قد قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله بخلقه فقد كفر ، و لا شك أنه كافر و أن الله – سبحانه و تعالى – لم يرد بهذه النصوص هذا الظاهر الذي ادعاه هذا الممثل. و قد يقول القائل : أين دليلك على أن الله ما أراده ؟ فأقول: الدليل عندي نقلي ،و عقلي :
أما النقلي فآيات متعددة تنفي المماثلة عن الله و أصرحها و أبينها قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: الآية11) .
و أما الدليل العقلي : فإنه لا يمكن أبداً أن يكون الخالق مماثلاً للمخلوق في أي صفة في أي صفة من صفاته لظهور الفرق العظيم بينهما في الذات ، و الصفات ، و الأفعال .
و من أهل البدع من حرف النصوص عن ظاهرها ، و نفى مدلولها اللائق بالله ، و هؤلاء المحرفون انقسموا إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : قسم غلا في ذلك غلواً عظيماً حتى نفي النقيضين في حق الله ، فقال : لا تقل إن الله موجود و لا تقل غير موجود . إن قلت موجود شبهته بالموجودات ،و إن قلت غير موجود شبهته بالمعدومات . و لا ريب أن هذا تنكره العقول كلها لأن رفع أحد النقيضين أمر مستحيل ، و التقابل بين الوجود و العدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن اجتماعهما و لا ارتفاعهما .
القسم الثاني : من قال نثبت السلب و لا نثبت الإيجاب فلا نصف الله بصفات ثبوتية ، و لكن نصفه بالسلوب و الإضافات و نثبت الأسماء مجردة عن المعاني ، و هذا ما عليه عامة الجهمية و المعتزلة .
القسم الثالث : من يقول : نثبت بعض الصفات لدلالة العقل عليها ، و ننكر بعض الصفات ، لأن العقل لا يثبتها ، و يعضهم يقول لأن العقل ينكرها .
و كل هذه الأقسام الثلاثة – و إن كانت تختلف من حيث البعد عن الحق – كلها على غير صواب فهي متطرفة ، فالقول الوسط ما عليه أهل السنة و الجماعة : أن نثبت لله ما أثبته لنفسه من الصفات ، و لكنه إثبات مجرد عن التكييف ، و عن التمثيل ، و بذلك نكون عملنا بالنصوص الشرعية من الجانبين ، و لم ننظر بعين أعور ، و بذلك نكون قد تأدبنا مع الله و رسوله فلم نقدم بين يدي الله و رسوله ، و إنما التزمنا غاية الأدب سمعنا و آمنا ، و أطعنا ما أثبته الله لنفسه أثبتناه ، و ما أثبته له رسوله أثبتناه ، و ما نفاه الله عن نفسه نفيناه ، و ما نفاه عنه رسوله نفيناه و ما سكت عنه سكتنا عنه .
العنصر الرابع : التطرف في التنزيه يستلزم إبطال الدين كله .
ذكرنا أن من الناس من تطرف في التنزيه حتى أنكر الصفات ، أو أنكر بعضها ، أو أنكر الإيجابية منها ، أو أنكر الإيجابي و السلبي فأقول : إن التطرف في التنزيه في كل أقسامه يؤدي إلى إبطال الدين كله . مثال ذلك: إذا كان المنزه يثبت بعض الصفات و ينكر بعضها قلنا له: لماذا تثبت و لما تنكر ؟ قال : أثبت هذه الصفات لأن العقل دل عليها ، و أنكر هذه الصفات لأن العقل لم يدل عليها أو دل على نفيها .
فيقول له القوم الآخرون : نفي جميع الصفات لأن العقل لا يدل عليها ، أو لأن العقل دل على نفيها . فلا يستطيع الأول أن يرد على هؤلاء لأنه إذا رد عليهم بأن العقل يثبت ذا و ينكر ذا أو لا يثبته قال : أنا عقلي لا يثبت ما تثبت و ما دام المرجع هو العقل فإن ما أنكرته أنت بحجة العقل فأنا أنكر ما أنكر بحجة العقل و لكن الأمر لا ينتهي عند موضوع الصفات .
بل يأتينا أهل التخييل الذين أنكروا اليوم الآخر ، و أنكروا رسالة الرسل بل أنكروا وجود الله رأساً – و العياذ بالله – فيقولون : عقولنا لا تقبل أن تحيا العظام و هي رميم ، لا تقبل وجود جنة و لا نار ، فيحتجون بالعقل كما احتج هؤلاء بالعقل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : و إثبات الصفات في القرآن و السنة أكثر من إثبات المعاد ، فأي إنسان ينكر الصفات فإنه لا يمكن أن يدفع إنكار من أنكر المعاد ، ولاريب أن إنكار المعاد ، وإنكار الشرائع إبطال للدين كله ، والخلاص من هذا هو إتباع طريق السلامة أن نثبت ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات ، وننفي ما نفاه الله عن نفسه من الصفات ، ونسكت عما سكت عنه وبهذا لايمكن لأي إنسان أن يفحمنا ، لأننا قلنا إن هذه المسائل الغيبية إنما تدرك بالشرع والمنقول عن المعصوم والعقول مضطربة ومختلفة . وكل إنسان من مدعي العقل يدعي وجوب ما يدعي الآخر أنه ممتنع ، أو ما يدعي الآخر أنه من الممكنات لامن الواجبات .
العنصر الخامس : أن بعض أهل التحريف والتعطيل قالوا : إن أهل السنة مشبهة ومجسمة وممثلة :
من الغرائب أن يدعى على الإنسان ما ينكره ، فأهل السنة والجماعة ينكرون التشبيه ، وينكرون التمثيل ، ويقولون من شبه الله بخلقه فقد كفر ، فكيف يمكن أن يلزموا بما هم معترفون بإنكاره ؟! هذا عدوان محض .
أهل السنة والجماعة يقولون نحن لانشبه ، ولا نمثل ، وإنما نثبت لله ما أثبته لنفسه ، وما أثبته له رسوله بدون تمثيل، وبدون تكييف.فما بالكم تشوهون طريقنا وتقولون أنتم ممثله ومشبهة ؟! ولكن لاغرو أن يرمى أهل السنة والجماعة بمثل هذه الألقاب السيئة ، لأن رمي أهل الحق بالألقاب السيئة أمر موروث عن أعداء الأنبياء – عليهم الصلاة و السلام ، فالأنبياء قيل : إنهم سحرة . و قيل : أنهم مجانين : (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذريات: الآية52) . و لكن هل الحق يغيض بمثل هذه الألقاب ؟ لا . بل يفيض ، و يزداد قوة ، و يزداد وضوحاً و بياناً – و لله الحمد – أهل السنة و الجماعة متبرءون من هذه العيوب التي يصمهم بها من يحرفون الكلام عن مواضعه . كذلك يقولون أنتم مجسمة ، كيف مجسمة و ما معنى مجسمة ؟! هذه الكلمة كلمة ( التجسيم ) لو قرأت القرآن من أوله إلى آخره و مررت على ما جاء عن النبي ، صلى الله عليه و سلم ، من السنة من أولها إلى آخرها لم تجد لفظ ( الجسم ) مثبتاً لله و لا منفياً عنه في كتاب الله و لا في سنة رسول الله ، صلى الله عليه و سلم ، فما بالنا نتعب أذهاننا و أفكارنا و نظهر ذلك بمظهر سوء بالنسبة لمن أثبت لله صفات الكمال على الوجه الذي أراد الله . إذ كانت كلمة ( الجسم ) غير واردة في الكتاب ، و لافي السنة ، فإن أهل السنة و الجماعة ، يمشون فيها على طريقتهم يقفون فيها موقف الساكت فيقولون : لا نثبت الجسم و لا ننكره من حيث اللفظ ، و لكننا قد نستفصل في المعنى فنقول للقائل : ماذا تريد بالجسم ؟ إن أردت الذات الحقيقية المتصفة بالصفات الكاملة اللائقة بها فإن الله – سبحانه و تعالى – لم يزل و لا يزال حياً عليماً ، قادراً ، متصفاً بصفات الكمال اللائقة به ، و إن أردت شيئاً آخر كجسمية الإنسان الذي يفتقر كل جزء من البدن إلى الجزء الآخر منه ، و يحتاج إلى ما يمده حتى يبقى فهذا معنى لا يليق بالله – عز وجل - ، و بهذا نكون أعطينا المعنى حقه .
أما اللفظ : فلا يجوز لنا أبداً أن نثبته ، أو ننفيه ، و لكننا نتوقف فيه ، لأننا إن أثبتنا قيل لنا : ما الدليل ؟ و إن نفينا . قيل لنا : ما الدليل ؟ و على هذا فيجب السكوت من حيث اللفظ ، أما من حيث المعنى فعلى التفصيل الذي بيناه .
العنصر السادس : أدعى أهل التحريف و التعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها :
هذا دعوى تلبيس ، و تشكيك ، و قد نشرت في الصحف نشرها من نشرها وقال : أنتم يا أهل السنة تشنعون علينا تقولون أنتم تأولون ، وأنتم يا أهل السنة قد أولتم فما بالكم تشنعون علينا بالتأويل وأنتم تسلكونه ؟! حقيقة إن هذه الحجة حجة قوية إذا ثبتت لأنه لا يحق لأي إنسان أن يتحكم فيما يمكن تأويله أو يجب وفيما لا يمكن ، و لكن أهل السنة و الجماعة يقولون هذه دعوى تلبيس ، و تشكيك فإننا لسنا على هذه الطريقة و أنتم رميتمونا بذلك إما لإلزامنا أن نسكت عن تحريفكم ونداهن، ولكنا بعون الله لن نسكت على ما نرمى به و نحن منه بريئون .
و هذا التأويل الذي ادعاه بعض أهل التأويل و رمي به أهل السنة و الجماعة لنا عنه جوابان.