اجعل حجّك وعمرتك للّه
أيها القاصد بيت اللّه الحرام، عليك بالإخلاص لله وتجريد نية الحج من الشريك، وتذكر أن هذا مطلوب في كل عمل تعبدي، وقد خص الله الحج والعمرة بذلك، فقال:'' وأتموا الحج والعمرة لله ''. البقرة/.196 وهذا التخصيص المذكور إنما جاء من أجل أن المشركين كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم، فخصها بالذكر لله تعالى حثا على الإخلاص فيهما ومجانية ذلك الاعتقاد المحظور.
وهناك وجه آخر من وجوه التأكيد على الإخلاص في الحج والعمرة. وهو أن الحج والعمرة فيهما من المشقة الظاهرة ومفارقة الأوطان ما يجعل أمره يظهر للناس، بل ويعظم عندهم فيه الثناء لعظم الجهد والتضحية. وهذا قد يغري النفس بممدحة الناس وحسن ثنائهم، فيقع فاعله في شرك الرياء، وحبائل التسميع، فوجب إذن التأكيد على الإخلاص وتجريد العباد من الشريك وتخصيص النسك لله وحده. رُوي عن بشر بن الحارث أنه قال:'' الصدقة أفضل من الحج والعمرة والجهاد... ثم قال: ذاك يركب ويرجع ويراه الناس، وهذا يعطي سرا، لايراه إلا الله عز وجل. وهذا القول له وجه صحة، إذ أنه نظر إلى جهة قرب العمل للإخلاص والتجرد، وان ما خفي كان أقرب، وإلا فالحج والعمرة والجهاد أعمال عظيمة لا يقارن بها غيرها إذا لازمها الإخلاص وبُنيت على التقوى.
فتذكر أيها الحاج أن الله تعالى أمر أن يُعبد وحده وان لا يُقصد بالعبادة سواه، فقد قال في الكتاب:'' وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين" (البينة:15). والرسول صلّى الله عليه وسلم أوصى بذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:'' قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). وانظر أيها الحاج كيف يذهب الجهد، وكيف تضيع التضحيات، حين يكون القصد لغير الله، أو يكون لله ولكن معه شرك خفي، فاطرح ما سوى الله في قصدك ونيتك، وتذكر أنه ليس من شروط القبول أن يكون المال كثيرا، أو المتاع وفيرا، فقد حجّ النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رثّ وقطيفة تساوي أربعة دارهم أو لا تساويها، ثم قال:'' اللّهم حجّة لا رياء فيها ولاسمعة).
وإن من نتائج عدم إخلاص العمل وعدم توقي الرياء الذي هو أخفى من دبيب النمل أن تنشط النفس عند رؤية الناس، وتقعد وتموت في الخلوة، ذكر ابن رجب رحمه الله أن بعض المتقدمين كان يحج ماشيا على قدميه كل عام، فكان ليلة نائما على فراشه، فطلبت منه أمه شربة ماء، فصعب على نفسه القيام من فراشه ليسقي أمه، فتذكر حجه ماشيا كل عام وكيف أنه لايشق عليه ذلك وشق عليه القيام لسقي أمه، فحاسب نفسه، فرأى أنه لايهوّنه عليه إلا رؤية الناس له ومدحهم إياه، فعلم أنه كان مدخولا، أي مرائيا. ورُوي عن بعض السلف أن رجلا جاءه فقال: أريد أن أحج، فقال: كم معك؟ قال: ألفا درهم، قال: أما حججت؟ قال: بلى: قال: فأنا أدلك على أفضل من الحج اقض دين مدين، وفرج عن مكروب، فسكت، فقال: مالك؟ قال: ما تميل نفسي إلا إلى الحج، قال: إنما تريد أن تركب وتجيء ويقال: قد حجّ.
فيا من توجه نحو البيت، وشدّ إليه رحاله، اجعل وجهك رب البيت لايكن قصدك من الحج رياء ولا سمعة، فإن من الناس من يحج ليُقال له: الحاج فلان، أو ليحتفل بقدومه، وهذا من أخسّ ضروب الرياء. ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال:''من سمّع سمّع الله به، ومن راءى راءى الله به).
أيها الحاج، أتدري من تقصد وإلى من تعمد؟! إنك إلى الله قاصد، أتظن الحج مفارقة الأوطان، وترك مقارفة النسوان، وجوب السباسب على النجائب، وقطع المراحل على الرواحل؟! كلا والله، بل هو خلوص النية للبرّ سبحانه قبل استقبال البرية، وإصلاح الطوية قبل امتطاء المطية، وخلع الشريك مع خلع الثياب للإحرام، وتجريد القلب لله قبل تجريد البدن من المخيط.
اللّهم إنا نعوذ بك من ضياع الأعمال وذهاب الأعمار
منقوووووووووووول